واحة الأدب

غُرْفَةُ عَمَّتِي

بِقَلَمً / أَحْمَدْ عَبْدِ اَلْوَهَّابْ 

 

كَانَتْ عَمَّتِي اَلْوَحِيدَةُ ، غَرِيبَةً اَلْأَطْوَارِ بَعْضَ اَلشَّيْءِ ، وَصَلَتْ لِمَشَارِفِ اَلثَّلَاثِينَ وَلَمْ تَتَزَوَّجْ ، تَعْشَقَ وَحْدَتَهَا

تَنْزَوِي لِسَاعَاتٍ فِي غُرْفَتِهَا لَا تُغَادِرُهَا إِلَّا لِقَضَاءِ حَاجَةٍ ، أَوْ عِنْدَمَا تَنْهَرُهَا جَدَّتِي طَالِبَةً مِنْهَا اَلْجُلُوسُ مَعَنَا فِي سَاحَةِ اَلدَّارِ .

اَلْغَرِيبَ أَنَّهَا كَانَتْ تَبْقَى مَعَنَا صَامِتَةً أَحْيَانًا طَوِيلَةً ، فَقَطْ تُتَابِعُ أَحَادِيثَنَا بِنَظَرَاتِهَا ، وَأَحْيَانًا أُخْرَى تَحْلُو لَهَا اَلثَّرْثَرَةُ

لَكِنَّهَا تُثَرْثِرُ دَائِمًا عَنْ مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مَا يَحْدُثُ دَاخِلَ غُرْفَتِهَا .

 كَانَتْ تُشِيرُ إِلَى أَحْدَاثٍ غَرِيبَةٍ . . . كَانَ أَحَدُهُمْ يُحْدِثُهَا دُونُ صَوْتٍ ، أَوْ أَحَدًا يُوقِظُهَا مِنْ نَوْمِهَا عَلَى أَصْوَاتٍ مُرْعِبَةٍ لَا يَسْمَعُهَا سِوَاهَا ، وَأَحْيَانًا تَحَدَّثْنَا

عَمَّنْ يَكْتُمُ أَنْفَاسَهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ . . . رُبَّمَا كَانَ هَذَا اَلْحَدِيثِ فَقَطْ هُوَ اَلَّذِي يَجْعَلُهَا تَتَفَاعَلُ مَعَنَا ، وَتَظَلّ تَحْكِي لَنَا وَتَتَّسِع عَيْنَاهَا وَتُومِض بِغَرَابَةٍ ، حَتَّى يَأْتِيَ صَوْتُ جَدَّتِي آمِرَةً إِيَّاهَا بِالسُّكُوتِ .

وَذَاتَ يَوْمٍ اِصْطَحَبَتْ جَدَّتِي ، عَمَّتِي لِزِيَارَةِ أَحَدِ اَلْمَشَايِخِ ” مِنْ أَهْلِ اَلْخُطْوَةِ ” ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَهْلُ قَرْيَتِنَا . . . كَانَ يَوْمٌ صَيْفِيٌّ وَفِي اَلْقَيْلُولَةِ حَاوَلَتْ اَلنَّوْمَ

لَكِنَّ إِخْوَتِي وَأَبْنَاءَ أَعْمَامِي اِسْتَغَلُّوا عَدَمُ وُجُودِ جَدَّتِي وَأَطْلَقُوا اَلْعِنَانَ لِجُنُونِهِمْ اَلصِّبْيَانِيِّ . . . فَجْأَةُ خَطَرَتْ لِي فِكْرَةُ اَلنَّوْمِ فِي غُرْفَةِ عَمَّتِي اَلْوَحِيدَةِ . . . غُرْفَتُهَا خَالِيَةً اَلْآنِ

وَدَائِمًا خَافِتَةً وَهَادِئَةً ، فَهِيَ تَقْبَعُ فِي اَلرُّكْنِ اَلدَّاخِلِيِّ مِنْ اَلدَّارِ ، وَلِأَنَّهَا مَبْنِيَّة مِنْ اَلطُّوبِ اَللَّبِنِ ، كَعَادَةَ اَلْبُيُوتِ اَلرِّيفِيَّةِ قَبْلَ ظُهُورِ اَلْغَابَاتِ اَلْإِسْمَنْتِيَّةِ

كَانَتْ تُحِيطُهَا رُطُوبَةٌ مُحَبَّبَةٌ فِي نَهَارَاتِ اَلصَّيْفِ اَلْقَائِظِ . دَلَفَتْ إِلَى غُرْفَةِ عَمَّتِي وَبَدَأَتْ عَيْنَايَ تَسْتَسْلِمَانِ لِمُدَاعَبَةِ ذَاكَ اَلنُّعَاسِ اَلنَّهَارِيِّ اَللَّذِيذِ ، وَانْتَشَرَ اَلْخَدَرُ فِي جَسَدِيٍّ فَرِحْتَ فِي ثَبَاتٍ عَمِيقٍ

ثُمَّ اِسْتَيْقَظَتْ فَجْأَةَ عَلَى صُعُوبَةِ اَلْجَوِّ ، فَقُمْتُ لِتَشْغِيلِ اَلْمِرْوَحَةِ وَبَيْنَمَا أَنَا وَاقِفٌ أَمَامَ مِرْآةِ دُولَابِ عَمَّتِي

لأمد يَدِي لِلضَّغْطِ عَلَى زِرِّ اَلْكَهْرَبَاءِ ، تَفَاجَأَتْ بِشِيئَا مَا أَمْسَكَ بِي مِنْ ظَهْرِي ، وَبِرَغْمَ مَلْمَسِهِ اَلطَّرِيِّ إِلَّا أَنَّهُ رَفَعَنِي بِقُوَّةٍ ، أَخْذًا فِي تَحْرِيكِي يَمِينًا وَيَسَارًا

ثُمَّ جَذَبَنِي نَاحِيَةِ اَلْمَرْأَةِ ، فَوَجَدَتْ نَفْسِيٌّ امشي دَاخِلِهَا ، وَأَيَادِي مِخْلَبَيْهِ تَمْتَدُّ لِتَنْهَشِنِي . . . سَقَطَتْ عَلَى اَلْأَرْضِ وَحَاوَلَتْ تَغْطِيَةٌ رَاسِي بَذَرَاعَايْ ، وَسُمِعَتْ وَقَعَ أَقْدَام تَوَقَّفَتْ فَوْقَ رَأْسِي تَمَامًا . . . رَفَعَتْ رَأْسِي بِبُطْءِ شَدِيدٍ وَنَظَرَتْ ، لِأَجِدْ عَمَّتِي تَقِفُ عِنْدَ بَابِ اَلْغُرْفَةِ تَرْمُقُنِي بِنَظَرَاتٍ نَارِيَّةٍ ، فَسَقَطَتْ مَرَّةٌ أُخْرَى وَلَكِنْ مَغْشِيًّا عَلِي .

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى