مقالات و آراء

“لا دخل لي” كلمة خربت بيوت كثيرة

بقلم : د. جلال الفضل

كلمة (لا دخل لي) سلمت رقابنا للجزار، وأخذت أموالنا، ونهبت دورنا، وأفسدت مشافينا، وأماتت مرضانا، وجهلت تلميذنا، وصغرت كبيرنا.
(لا دخل لي) جرأت السفهاء، ونطّقت الرويبضة، وكبرّت الأقزام، ونسّرت البغاث، ونشرت الرذيلة، وصدت الفضيلة.
ليس لي دخل شجرة خبيثة سقاها بحر الأنانية الأجاج، وشرعنا يقول: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، تخيل نفسك أنك أنت المتضرر، وأنت المستهدف، وأنت المظلوم، فكيف سيكون حالك؟ وما رأيك في من يمر بجانبك ولا يحرك ساكنا؟ الشجاع منهم من سيوثق قضيتك لينشرها! فقل لي بربك هل ترضى بهذا الحال؟
كم نسمع بعد حادثة قتل، أو سرقة الخ، وقال شاهد عيان: فمتى ينقلب الشاهد إلى مدافع عن الضحية، ومنقذ للنفس البريئة.
تخيل نفسك واقفا في طرف سفينة وسط البحر سارح الذهن في التأمل في هذا المخلوق العظيم، وفي تلك اللحظة ترى شخصا أنساك حليب أمك الذي رضعته، إذ به يتسلل بخفية قاصدا تفجير السفينة، فلعلها آخر نظرة لك للسماء، والحيتان في شوق للحمك الذي يعده ذلك المنتحر.
قل لي بربك: ماذا ستعمل؟ هل ستلقي بنفسك للبحر، وليكن ماكان؟ أم ستظل صامتا، وهذا أمر لا يعنيك! وكيف لا يعنيك؟! أم ستأخذ على يده وتنادي أهل السفينة ليمنعوه من فعلته؟
السفينة هي المجتمع ونحن على متنها، وكلّ منا عليه مسؤولية تجاهها، وخرابها هلاكنا، والسكوت عن مخربيها هو نهايتنا، ومن هنا يقول سيدنا صلى الله عليه وسلم:” ‌مثل ‌القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على ‌سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا”
المجتمع المسلم جسد واحد لا يتجزأ، والأذية لفرد أذية للكل، الأذية المتجهة لعينك تسارع اليد لصدها، وينحني الراس ليجنب العين شرها، وتعدو القدم لتخلصها من مكانها، ويضخ القلب الدماء ليقوي الأعضاء المدافعة، كل هذا لمجرد أذية صوبت نحو العين تحرك جسد بأكمله، ما أحلى أن تنتقل هذه الصفات إلى واقعنا ونكون كما قال سيدنا صلى الله عليه وسلم ” كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”.
أيها العقلاء: (لا دخل لي) كسرت دعامة هذه الأمة، ورمزشرفها، وفضلها (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر)، ولاتظن أن المنكر هو فعل الزنا، والمخدرات، والمسكرات وما شابهها، بل كل ما أنكره الشرع والنفوس السليمة، والعقول المستقيمة فهو منكر، القتل منكر، والبناء في الطرقات منكر، والبسط، واغتصاب الأراضي منكر، وتضييق الشوارع منكر، ورمي النفايات منكر، وأكل أموال الناس منكر، والسياسة الفاشلة منكر، ووضع الرجل الغير مناسب في عمل منكر، وكل أذية يتضرر منها المجتمع منكر.
آه ثم آه، كم أتعبتنا هذه الكلمة، فقد صارت مسرحا وضعناه لأهل التخريب والفساد يرقصون به على ظهورنا، بل مفتاحا رميناه لكل مخرب ولكل مفسد، ولكل صاحب هوى، يعمل فينا ما يشاء، ويخرب ما يشاء، ويصنع مايشاء، فمفتاح بيوتنا في قبضته، فنحن الضيوف وهو المضيف.
يفسد المسؤول، ويأكل القائد حق جنوده، ويقتل القاتل أمام الحشود، ويبسط الباسط على الأراضي جهارا نهارا، ويسرق السارق على مرأى ومسمع؛ لأنهم يعلمون أن لا دخل لي هي المحامي والقاضي لهم في قضيتهم.
(لا دخل لي) تهدم قواعد التعاون (وتعانوا على البر والتقوى).
النمل ليس في قاموس حياته، (لا دخل لي)، فالتعاون شعارهم، والمجتمع مسؤولية كل فرد، والعنصر الخامل ليس له وجود عندهم، والتضحية لأجل الوطن يتنافس عليها الجميع، فهلا استفدنا من هذه المملكة التي تمر أقدامنا عليها، بل ربما دسنا بعض أفرادها.
أيها الأحبة: لنكن عناصر فعالة في المجتمع، ولتكن الوظيفة للكل، فالأمن مسؤولية الجميع، والبيئة يحافظ عليها الجميع، والدعوة للجميع، ونشر الخير للجميع، والوقوف في وجه المنكر مسؤولية الجميع، فرسولنا صلى الله عليه وسلم يقول “من رأى منكم منكرا فليغيره …” لم يخص طائفة ولا فردا، الخطاب لكل مسلم، فكن الداعية، والناصح، ورجل الأمن إن غاب، ورجل المرور إن غاب، وعامل النظافة إن غاب، والمسعف إن غاب، والأب للصغير، والمكرم للضعيف, والمغيث للملهوف، والأخ للمرأة التي تمشي في الشارع،وليكن قلبك وجسدك مدينة خير تنقل وتبث كل خير.
أيها الآباء: امحوا كلمة لا دخل لي من قلوب أبنائكم، وعودوهم على مبدأ التعاون، والتضحية، فاليوم طُرق باب جارك وغدا بابك المطروق، فاليوم تسمع قتل فلان، وغدا أنت المقتول.
أيها الخطباء: جسّدوا مبدأ التعاون في أعمالكم قبل أقوالكم، وكونوا خير قدوة لمجتمعكم، واخمدوا كل خلاف فرق كلمتكم، وشتت همتكم، وضعوا كلمة (لادخل لي) في المقابر، ومبدأ الرجعة للأموات ليس في ديننا الحنيف.
أيها المدرسون: اغرسوا في قلوب تلاميذكم حب الوطن، وبنائه، ولم الصف، والتعاون مع الصغير والكبير، وعظموا العلم في قلوبهم، فبه تنور عقلوهم، ويغيروا واقع مجتمعاتهم.
أيها الساسة: كونوا اليد الرحيمة لمجتمعكم، والعين الساهرة لحفظه، فسهلوا لهم الصعاب، وقربوا لهم البعيد، وكلوا الأمر لأهل التضحية، والخبرة، والقدرة، مبعدين أهل الأنانية والعجز والجهل، وليكن مجتمعكم هو قبلتكم التي تتوجهون إليها، وهو اليد التي تخط لكم المنجزات والتضحيات، والسمو والرفعة في واحة البناء والتشييد.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى