تاريخنا الخالد

هل كان “محمد علي” باشا مسؤولا عن نهب الآثار المصرية

 

 كتب :طارق تغيان

ينظر الغالبية إلى محمد علي
باشا على إنه مسئول مسئولية مباشرة عن خروج عديد من التحف الأثرية والبرديات التي لا تُقدر بمال في عهده، لتعرف طريقها للمتاحف العالمية. وكيف لا وقد كانت المغامرين ولصوص الآثار يرتعون في طول البلاد وعرضها يستكشفون الأماكن الأثرية الخربة آنذاك، ويشحنون التماثيل والبرديات والاكسسوارات والتوابيت لبلادهم دون أن يحرك “الباشا” ساكنا او يمارس حقه للحفاظ على ثروات البلد التي يحكمها.

ولكن واقع الأمر ان هذا المفهوم ناتج عن إننا ننظر إلى تلك الأحداث بعين اليوم لا بعين زمنها ووقتها! ففي ذلك العهد مطلع القرن التاسع عشر الميلادي لم يكن الوعي الأثري موجودا لدى أحد من المصريين، بل لم يكن يعلمون شيئا عن التاريخ المصري بشكل عام، وبالتالي لم يُقدّروا ماهي القيمة الأثرية لتلك “المساخيط” و “العاديات” التي في الأماكن القديمة، والتي كان اغلبها مدفونا تحت تلال من الأتربة في ذلك الوقت. حتى والي البلاد، والذي كان يطمح في الاستقلال عن سلطة الدولة العثمانية، فلم يرى عيباً في إستمالة الدول الأوروبية لصفه عن طريق تلك الآثار التي يرى في أعينهم لهفة واعجاب شديد حين ينظرون إليها! فمنح برناردينو دروفيتي قنصل فرنسا العام بمصر، وهنري سولت قنصل إنجلترا (كارت بلانش) أن ينقبا عن الآثار بمعرفتهم في طول البلاد وعرضها، وأن ينقلا ما يريدان كما يحلو لهما. فعني مستر سولت بالأشياء الثقيلة، ونقل لبلاده تماثيل كبيرة الحجم لرمسيس الثاني وسخمت وعدد من التوابيت الضخمة، بمعونة المغامر الإيطالي لص الآثار الشهير چيوفاني پلزوني. في حين إختار مسيو دروفيتي ما خف حمله وثقل ثمنه، كالبرديات النادرة والتماثيل الصغيرة والقلادات والتحف الأثرية التي استخرجها من باطن الأرض على مدار ثلاثين عاما قضاها في وادي النيل وتعرض الان في متاحف فرنسا وايطاليا.

أيضا ينسب لمحمد علي باشا أنه قام بتفكيك معبد إسنا (العصر البطلمي)، لإعادة استخدام احجاره لبناء حديث، كما كان يحدث قديما بشكل شائع وطبيعي. ولولا أن علماء الحملة الفرنسية قد احتفظوا برسومات وتفاصيل لهذا المعبد، وكذلك وصف الرحالة السويسري بوركهارت، والذي راز المكان عام 1813م، لزالت ذكراه من الوجود. أيضا هناك بعض الروايات في سجلات وزارة الأشغال عن أوامر “الباشا” بتفكيك بعض الأهرامات للحصول على أحجار لبناء القناطر الخيرية عام 1839 ولولا تدخل بعض المهندسين الفرنسيين لحدث ذلك بالفعل.

ولكن أيضا من ضمن تلك الصورة القديمة، والتي يجب أن ننظر إليها بشكل كامل، إن العالم الاثري الشهير شامبليون قد زار مصر عام 1829م وجال في أنحائها وزار كثيرا من أماكنها الأثرية، وقابل الوالي محمد علي باشا شخصيا ولفت نظره إلى قيمة تلك الآثار التي تتعرض للنهب وطالبه بأن يستخدم سلطاته للمحافظة عليها. فأصدر “الباشا” قرارا عام 1834م بجمع كل تلك الآثار في أحد القصور القديمة تمهيداً لعمل انتكخانة (متحف)، ومنع أي بعثة استكشافية من البحث والتنقيب إلا بعد الحصول على تصريح من السلطات، وتسليم نصف ما عثرت عليه في باطن الأرض، وكذلك منع نقل التماثيل الضخمة أو نزع حوائط من المقابر والجداريات من مكانها أبدا. القانون الذي لم ينزل حيز التنفيذ إلا في عهد الخديوي اسماعيل مع تولي ميريت باشا رئاسة مصلحة الآثار وإنشاء انتكخانة بولاق والتي تحولت لاحقا إلى المتحف المصري بالتحرير. هذا القرار أو القانون موجود إلى الآن ومحفوظ بالسجلات ويسعى بعض الأثريين إلى استخدامه في معاركهم الطاحنة لإستعادة بعض الآثار والتحف المنهوبة من المتاحف العالمية.

معنى هذا أن المسألة عند “الباشا” كانت مسألة وعي ليس أكثر، فقد كان في حاجة فقط إلى من يلفت نظره، كما فعل شامبليون، ولولا انه دخل في “معمعة” الصدام مع السلطة العثمانية وقرارات مؤتمر لندن التي أطاحت بأحلامه عام 1840م، لأنجز “الباشا” الكثير في مجال العناية بالآثار المصرية والحفاظ عليها كما فعل حفيده الخديوي إسماعيل بعد ذلك.

* الصورة لتمثال منسوب للملك رمسيس الثاني، ومعروف بـ”ممنون الصغير” بالمتحف البريطاني، والذي تم نقله بمعرفة بلزوني لحساب هنري سولت قنصل انجلترا عام 1820م.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى